فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

{والكافرون هُمُ الظالمون} أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال: {والكافرون} للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج {وَمَن كَفَرَ} [النور: 55] مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصلت: 6]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والكافرون هم الظالمون} صيغة قصر نشأت عن قوله: {لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة} فدلّت على أن ذلك النفي تعريض وتهديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأنّ ذلك التهديد والمهدّد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله، وهذا أشدّ وقعًا على المعاقب لأنّ المظلوم يجد لنفسه سلوًّا بأنّه معتدى عليه، فالقصر قصر قلب، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنّهم مظلومون.
ولك أن تجعلَه قصرًا حقيقيًا ادّعائيًا لأنّ ظلمهم لما كان أشدّ الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم.
والمراد بالكافرين ظاهرًا المشركون، وهذا من بدائع بلاغة القرآن، فإنّ هذه الجملة صالحة أيضًا لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأنّ ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذبّ عن حوزته.
وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظنّ بهم ذلك، فتركه والكفر متلازمان، فالكافرون يظلمون أنفسهم، والمؤمنون لا يظلمونها، وهذا كقوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6، 7]، وذلك أنّ القرآن يصوّر المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظًا وتنزيهًا، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أنّ المعاصي تبطل الإيمان كما قدّمناه. اهـ.

.قال ابن عطية:

ندب الله بهذه الآية، إلى إنفاق شيء مما أنعم به وهذه غاية التفضل فعلًا وقولًا، وحذر تعالى من الإمساك، إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك بنفقة في ذات الله، إذ هي مبايعة على ما قد فسرناه في قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله} [البقرة: 245]، أو إذ البيع فدية لأن المرء قد يشتري نفسه ومراده بماله، وكأن معنى الآية معنى سائر الآي التي تتضمن إلا فدية يوم القيامة.
وأخبر الله تعالى بعدم الخلة يوم القيامة، والمعنى: خلة نافعة تقتضي المساهمة كما كانت في الدنيا، وأهل التقوى بينهم في ذلك اليوم خلة ولكنها غير محتاج إليها، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئًا، وأخبر تعالى أن الشفاعة أيضًا معدومة في ذلك اليوم، فحمل الطبري ذلك على عموم اللفظ وخصوص المعنى، وأن المراد {ولا شفاعة} للكفار. وهذا لا يحتاج إليه. بل الشفاعة المعروفة في الدنيا وهي انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده مرتفعة يوم القيامة البتة. وإنما توجد شفاعة بإذن الله تعالى. فحقيقتها رحمة من الله تعالى. لكنه شرف الذي أذن له في أن يشفع، وإنما المعدوم مثل حال الدنيا من البيع والخلة والشفاعة. اهـ.

.قال السعدي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} وهذا من باب الحصر، أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}.
التفسير: {تلك} القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التي هي إتيان التابوت، وغلبة الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير؛ {آيات الله} الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته؛ {نتلوها عليك} بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم لجبرائيل كقوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10] {بالحق} باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما احتملها الأمم السالفة، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة. ثم أكّد ذلك بقوله: {وإنك لمن المرسلين} حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة، وفيه أيضًا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله، فالمصيبة إذا عمت طابت. ولمثل هذا كرر فقال: {تلك الرسل} أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم {فضلنا بعضهم على بعض منهم من} فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه السلام {ورفع بعضهم درجات} قيل إن {درجات} نصب بنزع الخافض، وقيل رفع لبعضهم كقوله: {ورفعناه مكانًا عليًا} [مريم: 57] أي له، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات، وقيل مصدر في موضع الحال، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال: ورفعنا بعضهم رفعات. وأيَّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع.
واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وعلى أن محمدًا أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] ومنها قوله: {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4] قرن ذكره بذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء؛ ومنها أنه قرن طاعته بطاعته:
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] وبيعته ببيعته {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10] وعزته بعزته: {ولله العزة ولرسوله} [المنافقون: 8] ورضاه برضاه {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] وأجابته بإجابته {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} [الأنفال: 24] ومحبته بمحبته: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزًا برأسه. ومنها أن معجزته، وهي القرآن، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة. ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقًا فيهم وإليه الإشارة بقوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها، فإنه لا يجوز أن يكون مأمورًا بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع، فإذن المراد محاسن الأخلاق. ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمَّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد. ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل، ومنها أن أُمَّته أفضل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل. ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثًا إلى الجن والإنس، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثرًا قويًا في علو شأن المتبوع. ومنها أن كل نبيٍّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه.
{يا آدم اسكن} [البقرة: 35]، {يا موسى إني أنا الله} [القصص: 30]، {وناديناه أن يا إبراهيم} [الصافات: 14]، {يا عيسى إني متوفِّيك} [آل عمران: 55]. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نودي بقوله: {يا أيها النبي} الأنفال: 64 وغيرها كثير {يا أيها الرسول} [المائدة: 41، 67]، بل أقسم بحياته، {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72].
وأما الأحاديث في هذا الباب؛ فعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه. قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض: عجبًا إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلًا واتخذ إبراهيم خليلًا. وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليمًا. وقال آخر: ماذا بأعجب من جَعْل عيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول شفيع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيُدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر».
وفي الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحِلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض طيبة وطهورًا ومسجدًا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونُصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» وروى البيهقي في كتابه في فضائل الصحابة ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا سيد العرب» فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: «أنا سيد العالمين وهو سيد العرب» ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة ريئس القرية. ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة، فلا جرم أُعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائز المعارف والحقائق، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده.
هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته؛ فآدم جُعل مسجود الملائكة، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحًا وريحانًا، وأُوتي موسى العصا واليد البيضاء، وداود لان الحديدُ في يده، وسليمان أُعطي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مُسَخرين له، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال: «لا تفضلوني على يونس بن متى» وقال: «لا تخيروا بين الأنيباء» وقال «لا ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يحيى بن زكريا» وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. والجواب أن كون آدم مسجودًا للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «آدم ومَنْ دونه تحت لوائي يوم القيامة» وقوله: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين» ونُقل أن جبريل عليه السلام أخذ ركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرَّة واحدة على أن ذلك السجود أيضًا إنما كان لأجل نور محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان في جبهته، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال: لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك ومَنْ تأمَّل كتب دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: «لا تفضلوني... ولا تخيروا»، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب. وأيضًا التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعًا وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور. والحاصل أن التوفيق بين قوله «لا تفضلوني» وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلًا منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء السالفة منعهم عن ذلك، وقال: «أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين» وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال: «لا تفضلوني»؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء، للواقع فقد يكون الشيء حقًا في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف، فالمراد بهذا الأمر: لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله: {من كلم الله} التقدير: من كلمه، فحذف العائد وقرئ كلم الله بالنصب وليس بقوي؛ فإن كلّ مصلٍّ فإنه يكلم الله قال صلى الله عليه وسلم: «المصلي يناجي ربه» وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري: المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت، كما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة. وقالت المعتزلة: سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال. واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختُلف في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هل كلمه الله أم لا؛ منهم مَنْ قال نعم بدليل قوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10] وأورد هاهنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة، فقد كلم الله إبليس حيث قال: {أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} [الأعراف: 14، 15] الآيات، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمة من غير واسطة، فلعلّ الواسطة كانت موجودة، قلت: هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة قسمان: مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس:
{وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين} [ص: 78] وكما في أهل النار: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108].
أما قوله: {ورفع بعضهم درجات} فقيل: المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلًا، وأعطى داود الملك والنبوة، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح. وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان، وخصّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه. هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب. أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضًا وجه؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعًا آخر من المعجزة لائقًا بزمانه؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر، ومعجزات عيسى من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك غالب على قومه، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر. وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة، وبالبقاء وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القوة. وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة. وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كان مستجمعًا للكل؛ فمنصبه أعلى، ومعجزته أقوى وأبقى، وقومه أكثر، ودولته أعظم وأوفر، وقيل: المراد بهذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضَّل على الكل. وإنما قال: {ورفع بعضهم درجات} على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيمًا فيقال له: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرًا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه. ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يبق فيه فخامة. وليس قوله: {ورفع بعضهم درجات} تكرارًا لقوله: {فضلنا بعضهم على بعض} لأن المفهوم من قوله: {فضلنا} هو وجود نفس الفضل.
والمفهوم من قوله: {ورفع بعضهم درجات} هوالتفاوت بالدرجات الكثيرة.
{وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} قد سبق تفسيره، وإنما عدل عن الغيبة إلى الحكاية لأن الضمير في قوله: {وآتينا} للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء، وأما قوله: {كلم الله} فأهيب من قوله: {كلمنا} فلهذا اختير الغيبة. وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون، فنبَّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيُّن معجزاتهما، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كفر، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا، فلهذا قال تعالى: {ولو شاء الله} أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضًا ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا.
كرر الكلام تكذيبًا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم، ولكن الله يفعل ما يريد. وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال، ومسألة إرادة الكائنات، وأن الكل بقضاء الله وقدره، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عز وجل في العبد، والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه. ثم إنه تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله: {وقاتلوا في سبيل} [البقرة: 190] وأعقبه بقوله: {منْ ذا الذي يقرض الله} [الحديد: 11]، والغرض منه الإنفاق في الجهاد، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت، أعقبه تارة أخرى الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله: {من قبل أن يأتي يوم} كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب. وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا، وأن الإنسان يجيء وحده وما معه إلا ما قدم من أعماله.
ومعنى قوله: {لا بيع} أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب، أو يكتسب مالًا حتى ينفق منه، {ولا خلة} لا مودة، لأن كلّ أحد يكون مشغولًا بنفسه لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهل كل مرضعة عما أَرضعت. ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقًا ذكر عقيبة قوله: {الكافرون هم الظالمون} ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسَّاق. نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول: الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون، ولم يقل والظالمون هم الكافرون. وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، فقال: {والكافرون} للتغليظ كقوله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] أي ومن لم يحج. وقيل المراد. إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق. فهو كقوله: {ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا} [الكهف: 49] وقيل الكافرون هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام، {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}. وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله: {آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا} [الكهف: 33] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر. وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم. اهـ.